
تأملات في قصة ” مُذكِّرات جُثَّة مُنْتَّفِخَة بالحيَاة” للكاتب عمر الصايم
بقلم مهدي يوسف إبراهيم
“التضاد” – و ربما الصراع – هو ثيما القصةِ …التضادُ بين الحياةِ و الموت …و بين العطاءِ و البخل بمعناهما الوجودي العميق … و قد اختزل “عمر الصايم ” هذا التضاد في كلمتي ” جثة ” و ” حياة ” اللتين وردتا في العنوان…..
تبدأُ القصةُ بعثور الكاتبُ على جثة الجندي قرب محطة الوقود ( كلتا الكلمتين – الكاتب و الجندي وردت منذ ظهورها الأول بصيغة التعريف بالألف و اللام ) …اختيار محطة الوقود يشي برمزيةٍ عالية…فالجنديُ نفسُه وقودٌ للحرب …و وقودٌ للساسة …والكاتبُ وقودُ لهوسه بكتابة قصص ” يزاحمُ بها الآفاق” … و القادة وقودُ لهوسهم بالانتصارات و التاريخ ..
اختيارُ اللون الأخضر لمذكرة الجندي التي عثُر عليها الكاتبُ فيه توفيقٌ هائل …فشخصيةُ الجندي المعنِي مختلفةٌ عن شخصيات الجنود التي لطالما قرأنا عنها في أدب الحرب الكلاسيكي …لكن ” عمر الصايم ” لم ينس أن يشير بذكاء إلى أن اللون الأخضر عليه بقع دم فاقع الحمرة …( و هذه تصبح أكثر لمعاناً في نهاية القصة كإشارةٍ لثورة التغيير الذي طال شخصية الكاتب في النهاية ).
يعيشُ الكاتبُ على حافة الوجود الحقيقي في بلاده : ” ها هو يخونُ المشاعر الإنسانية في سبيل كتابة نصٍ قصصي؛ مِمَّا يلقي به في متاهة خياناته الوطنية التي ظلَّ يتهرب منها متعمدًا”…. ونحنُ لا نعلمُ كم عمره …لكن ” عمر الصايم ” يشيرُ إليه إشارةً لطيفةً بقوله : ” أعدَّ لنفسه قهوة خالية من السكر، كما يُفتَرض في مثقف بلغ سنّه “.. ثم ما يلبثُ أن يقولَ بشكلٍ تقريري أنه مصابٌ بداءِ السكر : ” شعر بغثيان، بأوصاله ترتجف، ثُمَّ ببوادر انخفاض السكر في دمه، أخذ قطعة من السكر ” …
و الكاتبُ لا يعيشُ حياته بصدقٍ و تصالح : ” بدأ يفكرُ في صلعته الصغيرة، كيف احتلت رأسه بعد أنْ تدخل لإخفائها، لم يعترف بها وظل يخون شكله الحقيقي باحثًا عن شكله الأمثل أو المُتَوَهَّم”…. كما أنه لا يعرفُ الحبّ الحقيقي : ” تذكَّر كيف أنّه باع الحب نفسه رغم تمجيده له في كتاباته، لطالما خان الحبيبات، واعتقد في دخيلة نفسه أنَّ الزواج لا يحتاجُ للحب أبدً”…..
من البداية ندركُ أن اهتمام الكاتب بالمذكرة و الجندي اهتمام مبعثه الأنانية المحضة : ” سيقرأها الآن بكافة عناوينها؛ ليبدأ قصته التي يزاحم بها الآفاق.. “… لا يعثرُ الكاتبُ في المذكرة على خطابٍ لزوجة أو وصفٍ للحرب ..بل يفاجأ بأن الجندي كتب عن قصة حبٍ بين دجاجة سمراء و ديكٍ جاء من جهة العدو …
و يستخدم ” عمر الصايم ” قصة الحب رمزية للحياة الحقيقة و كذلك للسخرية من الحرب و من غباء الإنسان الذي يقاتل أخاه الإنسان ” : “أظنُّ أنَّ هذه الحرب لا تعنيهم في شيءٍ، وأنَّهم ينظرون إلينا كأغبياء عابثين بالحياة ليس إلَّا”.. يقوم جندي ما بالتعرض للديك و نتف قوادمه ….
وهنا يورد ” عمر الصايم ” واحدة من أعظم عباراته في القصة : ” هكذا نحن البشر عندما نتدخل بأيدينا نعطِّل دبيب الحياة” لا أعلم إن كان “عمر الصايم ” قد نظر إلى شخصية ” كابتن بلنتشلي” في رائعة ” الرجل و السلاح ” للمسرحي العظيم ” جورج برنارد شو ” أما لا …إذ ثمة خيطٌ رفيعٌ يربطُ بينها و بين هذا الجندي المختلف ….فكابتن ” بلنتشلي ” كان ينتبذُ ركناً قصياً في المعارك ..يتسلّى بمشاهدة القتال و هو يلتهمُ الحلوى …و الجندي هنا كان مشغولاً بمتابعة قصة الحب الغريبة تلك …غير أنه ثمة اختلاف جوهري بينهما …فالجندي هنا يشاركُ في القتال الفعلي : “صعدتُ الأرض لأسحق الخونة، أمرغ الأعداء بالأرض ” … غير أنه في قتاله يقومُ – دونما قصد – بقتل الدجاجة و صيصانها ” : ” ومع تقلب المجنزرة وهي تدورُ أبصرتُ أيَّ حياةٍ سحقتُ، وأي أبرياءٍ سحلتُ، الدجاجة باسطة جناحيها، ورؤوس الكتاكيت تطلُّ منها، لم يكن لهم أجساد، محض رسمة بشعة للموت موثقة على جنازير المدرعة.. ماتت الكائنات الشغوفة بالحياة، ماتت الأم المعطاءة، ماتت حبيبة أحد الديوك المغامرة”….
بذكاء هائل يخبرنا ” عمر الصايم ” على لسان الكاتب أن مكانُ الجثة غيرُ معلوم ..و نحنُ لا نعلمُ إن كان الجندي قد مات على أيدي أعدائه أم قادته …كل هذا يكثّفُ من عبثية الحرب و فوضاها العمياء…
مع خاتمة القصة يحدث تغيير جوهري في شخصية الكاتب : ” أنَّه لا يرغبُ في المجد الأدبي، هو أيضًا محض زيف كمجد الحروب، تصنعه الأيدي الخفية، والشركات متعددة الأنشطة والجنسيات، اكتشف أنَّه يريد أن يحيا فقط “… مثلما طال التغيير شخصية الجندي قبله : ” حدَّثتُ نفسي أنَّنِي لو خرجتُ من هنا سالماً؛ فإنَّ أوَّل ما سأفعله هو البحث عن أنثاي في هذا الكون، ستكون أنثى في رقة وحميمية دجاجتي السمراء، وسأكون لها ديك العدو القريب من القلب،”… و لذلك تردُ هذه العبارة الحاسمة عن الكاتب : ” قرَّر ألَّا يكتب هذه القصة مطلقًا، أن تظل سرّه الأعظم” .. بتأمل العنوان .. نعلمُ أن الجثة المنتفخة بالحياة هي جثة الجندي (إذ هو صاحب المذكرات) …لكننا في نهاية القصة نجد أن ” عمر الصايم ” أورد هذه العبارة عن الكاتب : ” اكتشف أنَّه يريد أن يحيا فقط، وأنْ يمتلك جثةً منتفخةً بالحياة “… مناط حلم الكاتب إذن أن يصبح مثل الجندي – جثةً منتفخةً بالحياة .. و هو حلم يبدو غريباً بعض الشيء في ظل التغيير الإيجابي الذي طال شخصيته في خاتمة القصة …
لم يقدّم ” عمر الصايم ” تاريخ كتابة هذه القصة ..لكن من اليسير استشفاف أنها كُتبت خلال هذه الأيام … بالطبع لا يمكنُ إنهاء هذا التأمل دون الإشارة إلى جمالية لغة ” عمر الصايم ” الرقراقة ، العذبة ، التي تلامسُ في بعض مراقيها تخوم الشعر …كما لا يمكنُ إغفال بصمته الخاصة في إيراد صوره الخاصة به : ” استفحل الصلعُ، وتوقف شعرُه عن أن يدبَّ في رأسه، وبدلًا عنه دبّت التجاعيد في عنقه، حتَّى حاصرت تفاحة آدم التي يعوِّل عليها في تغيير صوته عندما يتحدَّث ككاتب كبير.”… و ” هل ستنتهي مفكرة الجُثَّة المنتفخة بأسرودةٍ عن عشق ولوعة تنتهي بموت الديك روميو، أو جنون الدجاجة العامرية”….
…. جدة 18/5/2023