‫الرئيسية‬ ثقافة قصة قصيرة مُذكِّرات جُثَّة مُنْتَّفِخَة بالحيَاة
قصة قصيرة - 17 مايو 2023, 9:24

مُذكِّرات جُثَّة مُنْتَّفِخَة بالحيَاة

عمر الصايم
بعد أنْ انتفخت جثة الجندي المرمية جوار محطَّة الوقود؛ بدأت مُفَكِّرته الصغيرة في الانحدار، كأنَّها تحاول الإفلات من الجثة. كان الكاتب يمرُّ من هناك بسيًّارته، بعد أن اجتازَ نقاط التفتيش التي ينصبها المُتحاربون في المدينة، لمح المذكرة وقد أوشكت على السقوط أرضًا، وبغريزة الكاتب ورغبته في الكتابة؛ لتنضيد مجده الأدبيّ، اندفع نحو الجثة، تأكد أنْ لا أحد يلحظه، مدَّ يده وأخذ المفكرة، لونها أخضر باهت، وعليها بقع دم فاقع الحمرة. دسَّها في جيبه، وانسحب دون أن ينظر في عيني المحارب وقد كادت هي الأخرى أن تسقط أرضًا. خالجه شعورٌ خَفِي بالعار والخجل من سرقته، حينَ التفتَ ولم يجد أحدًا يبصره؛ أغَذَّ السير نحو سيارته الناجية من محرقة الحرب؛ بفضل حصافة الكاتب وقدرته على الاختباء بها بعيدًا عن القصف. جلس خلف المِقْوَد، أدار المحرِّك سريعًا وهو يربَّت على جيبه. انطلق نحو منزله، يفكر بأنَّه لم يتخلص من عادته في الخيانة، ها هو يخون المشاعر الإنسانية في سبيل كتابة نص قصصي؛ مِمَّا يلقي به في متاهة خياناته الوطنية التي ظلَّ يتهرب منها متعمدًا، وهو يملأ صفحاته بالشِّعارات مثل (لا للحرب ) الآن اعتاد على منظر الجثث، وانتقل إلى مرحلة سرقة مقتنياتها. أعدَّ لنفسه قهوة خالية من السكر، كما يُفتَرض في مثقف بلغ سنّه. جلس على أريكة واتسق معها مريحًا ظهره، تجاهل صوت الرصاص المدوي من شارعٍ بعيد. أخرج مذكرات الجثة، ثم فتحها عشوائِيًّا، هاله جمال الخط، وأنَّها مُنَسَّقة كخطوات جندي محترف، لاحظ أنَّها معنونة، وأنَّ خطوط العنوان مختلفة، أكبر حجمًا، وقد تمَّ تمرير قلم الحبر عليها بكثافة، سيقرأها الآن بكافة عناوينها؛ ليبدأ قصته التي يزاحم بها الآفاق.. كتاكيت الحرب: في هذا اليوم خرجتْ الدجاجة المذهلة من تحت دبَّابتي، يبدو عليها الفرح بالإنجاز، وفي صحبتها تسعة مِن الصيصان الجميلة. لا أستطيع أنْ أحدِّدَ أيّ منها يشبه ديك العدو، وأيُّها يشبه دجاجتنا، رُبَّما أشهد نمو هذه الكتاكيت الرائعة؛ إذا استطالت فترة تمركزنا هنا، وربما أشهد أعراسها في مواسم السلام. لم تخرج الدجاجة الأم بصغارها عن منطقتنا، ولكن كعادته قفز الديك المُراوغ من فوق التحصينات وتسلَّلَ إليها من مكامن الأعداء، يسيران في ثقة وخلفهما أفراخهما السعيدة. بللتُ الخبز الجاف ونثرته طعامًا للعائلة، الأب يبدي نكران ذات، يدعو الصغار لالتقاط طعامه.. أظنُّ أنَّ هذه الحرب لا تعنيهم في شيءٍ، وأنَّهم ينظرون إلينا كأغبياء عابثين بالحياة ليس إلَّا. أغلق الكاتب المُذَكِّرة، وبذهول أطرقَ ينظرُ إلى السقف.. هذا ما لم يتوقع أنْ يقرأه! أين الخطط؟ الأناشيد الحماسية؟ الرسائل إلى الحبيبة في قريتها النائية؟! أيُّ جندي هذا الذي يتابع بشغفٍ إفقاس دجاجة أوان الحرب؟! قرَّر أنْ يواصل في تصفحه العشوائي. أغلق المذكرات، ثُمَّ أعاد فتحها على عنوانٍ آخر. حب بأجنحة لا تُحَلِّق: لا أحد يعرفُ من أينَ جاءت الدَّجاجة السمراء، شاهدها الجنود أثناء تخندقهم لبدء المعركة التي قَسَّمت المدينة إلى نصفين.. دجاجةٌ وحيدة تتجوَّل بطمأنينة، لا تفزعها أصوات المحركات ولا هتافات الجنود، تعوَّدت أنْ تلتقط طعامها من أياديهم. بعد فترة وجيزة ظهر لنا ديكٌ من جهة العدو، ديك بريش ملوَّن، وتاج أحمر زاهي، ظلَّ يتسلّل إلينا خلسة، يقضي نهاره في التَّسَكُّع مع السمراء، والتقاط الطعام بحذرٍ شديد. جندي مهووس بالتخابُر شكَّ فيه؛ فقبض عليه وقام بتفتيشه بقسوةٍ، معتبرًا أنه جاسوس، لم يعثر على شيءٍ مريب بين أجنحته، ومع ذلك قام بنزع القوادم من جناحه. تألَّم الديك، انتفض وجناحاه تقطر دمًا، خلنا أنَّه لن يأتي لمحبوبته مرة أخرى. غاب ليومين متتاليين، عاد في اليوم الثالث يصفق بجناحيه، ويستدعي حبيبته بصوت باكٍ، خرجتْ إليه عجلى والشَّوق يسبقها، لم تنتظر كثيرًا حتَّى أرختْ له جسدها فاعتلاها، كانت أطول اعتلاءة في تاريخ الدَّيَكَة رأيتُها في حياتي، قامت تنفض ريشها يتطاير منه بلور الحب.. حينئذٍ تأكدتُ أنّها قصة حب في أزمنة الحرب، وأنَّ للحيوانات الأخرى ما يجعلها تستحق السَّلام؛ فصرتُ أرعى العاشِقَين، أوفر لهما احتياجاتهما. قُبيل المساء يعود الديك إلى خنادق العدو، وتقفز السمراء لتنام أعلى مدفعي. في الليل أسمعُ صيحاتٍ متقطعة للديك، أتخَيَّلُها رسائلَ شوقٍ، وأنّه في انتظار الصباح ليهرول نحونا. بقي الكاتب مشدودًا إلى السطور، وخياله يتجه نحو قصص الحب العالمية، يتساءلُ هل ستنتهي مفكرة الجُثَّة المنتفخة بأسرودةٍ عن عشق ولوعة تنتهي بموت الديك روميو، أو جنون الدجاجة العامرية. تأمَّل ذاته كعاشق مُخاتِل وخؤون، تذكَّر كيف أنّه باع الحب نفسه رغم تمجيده له في كتاباته، لطالما خان الحبيبات، واعتقد في دخيلة نفسه أنَّ الزواج لا يحتاج للحب أبدًا.. أبدًا! بسرعة هارب وجد يدَه تمتدُ لتفتح صفحةً جديدة. موت في انتظار المقتلة: لا يريد القادة العظام أنْ يشعلوها؛ لأنَّ عظمتهم ستكون على المحك، كُنَّا على الأقل سنتأكد من أنَّنا لم نزل أحياء، ولا يريدون أنْ ينسوا فكرة إِحراق الأرض؛ لأنهم لا يريدون أن ينساهم الناس والتَّاريخ، كُنَّا حينئذٍ على أسوأ الفروض سنستأنفُ حياتنا المعتادة.. حالة من اِنتظار الحرب أشدُّ قهرًا من سماع صوت الرصاص، أشعر أنَّنِي أموتُ ببطءٍ، أنتفخ بذكرياتي عن أيَّام السلم. حدَّثتُ نفسي أنَّنِي لو خرجتُ من هنا سالماً؛ فإنَّ أوَّل ما سأفعله هو البحث عن أنثاي في هذا الكون، ستكون أنثى في رقة وحميمية دجاجتي السمراء، وسأكون لها ديك العدو القريب من القلب، تمنَّيْتُ أن أعود من هنا سالمًا، وفي معيتي الدجاجة وزوجها معي بمفاوضة العدو أو حتَّى بأَسْرِهِ؛ فقد صرت على قناعة أنَّها لن تعيش مع ديك آخر. بصدفة حين اختفت الدجاجة اكتشفت أنها حضنت بيضها تحت دبابتي، فرحتُ جدًّا لحرصها على استمرار النسل العاشق رغم رائحة الموت المنبعثة في المدينة. ظلَّ الديك يعاودها يومِيًّا، يتفقد مرقدها لبعض الوقت، ثُمَّ يعود إلى أرض العدو التي نتربص بها. في ذروة الانتظار الكريه أطلَّتِ الدجاجة من مكمنها بصيصانها التسعة، ممتلئين بالوسامة وشغب الطفولة. نظرتُ إلى مرقدها فوجدتُ بيضتين لم تدب منهما الحياة، فكرت أنَّ ذلك حدث بسبب غياب الديك في يومي نزع القوادم، هكذا نحن البشر عندما نتدخل بأيدينا نعطِّل دبيب الحياة. انتبه الكاتب إلى قهوته التي لم يرشف منها شيئًا، باردة ومنطفئة كقلبِهِ، نزع القبعة عن رأسه الأصلع، مسح عنه دفقات من العَرَق، بدأ يفكر في صلعته الصغيرة، كيف احتلت رأسه بعد أنْ تدخل لإخفائها، لم يعترف بها وظل يخون شكله الحقيقي باحثًا عن شكله الأمثل أو المُتَوَهَّم، استفحل الصلع، وتوقف شعره عن أن يدبَّ في رأسه، وبدلًا عنه دبّت التجاعيد في عنقه، حتَّى حاصرت تفاحة آدم التي يعوِّل عليها في تغيير صوته عندما يتحدَّث ككاتب كبير.. بعفوية قلب الصفحة، وبدأ يقرأ. دهسة غير متكافئة: مع نسمات الفجر أَمْطَرَنا العدوُ بوابلٍ مِن رَصَاصِهِ، أضاءت السماء بنيران متكاثفة، ثم أعتمت بالأدخنة المتصاعدة.. الآن تحديدًا فشل السياسيون في لغتهم، واعتمدوا لغتنا، الآن فقط حركَّت الأيدي الخفية أيدي الجنود نحو مقابض السلاح، ستفرحُ شركات بيعه وتغنم الربح الوفير. ساهمًا كنتُ أتمشَّى بين الرصاص حتى أصدر لي القائد أوامره بتحريك دبَّابتي والتقدٌّم نحو العدو.. تلك اللحظة فارقتني الحياة وصورها الوادعة، امتلأ رأسي بهتافات النصر، وراية الجندية رفرفت في سمائي. صعدتُ الأرض لأسحق الخونة، أمرغ الأعداء بالأرض، مع صعودي نظرتُ للشمس وهي بازغة في تكاسلٍ. أدرت المُحَرِّك مندفعًا نحو العدو، ومع تقلب المجنزرة وهي تدور أبصرتُ أيَّ حياةٍ سحقتُ، وأي أبرياءٍ سحلتُ، الدجاجة باسطة جناحيها، ورؤوس الكتاكيت تطلُّ منها، لم يكن لهم أجساد، محض رسمة بشعة للموت موثقة على جنازير المدرعة.. ماتت الكائنات الشغوفة بالحياة، ماتت الأم المعطاءة، ماتت حبيبة أحد الديوك المغامرة.. صياح العاشق يأتي من بعيد، يرسل إشارات حزنه، بعد قليل سيأتي إلى هنا، وربما يدهسه أصحابه وهو في الطريق. أوقفت الدبَّابة لأنزل عنها ببكائي ودموعي، دون أن أنظر إلى شهدائي الأبرار، جريتُ مبتعدًا ببزتي العسكرية، فارًا من المقتلة وآلياتها العمياء، غير مكترثٍ بتعليمات القائد، ولا بالقناصين على أسطح البنايات ودروب المدينة المحترقة. حتمًا سيقتلني مَن يظفر بي من أي الفريقين، ولكنني سأهرب من موتٍ غير محقق إلى الموتٍ الأكيد. سقطتِ المفكرة من يد الكاتب، شعر بغثيان، بأوصاله ترتجف، ثُمَّ ببوادر انخفاض السكر في دمه، أخذ قطعة من السكر وقذف بها إلى فمه. بدأ يتحسَّن؛ فدلق فنجان القهوة دفعة واحدة، هو لا يريدُ الموت لنفسه الفارغة حتَّى تمتلئ بالحياة. اكتشف أنَّه لا يرغبُ في المجد الأدبي، هو أيضًا محض زيف كمجد الحروب، تصنعه الأيدي الخفية، والشركات متعددة الأنشطة والجنسيات، اكتشف أنَّه يريد أن يحيا فقط، وأنْ يمتلك جثة منتفخة بالحياة. تذكَّر أنَّه لم يتأمل موضع إصابة الجثة، لا يعرف بالضبط إذا ما قتله رفاقه أم أعداءه، بالتأكيد قراره بالخروج عن المعركة هو الذي أودى بحياته إلى التهلكة في قارعة المدينة المذبوحة. حمل المذكرة ووضعها برفقٍ في درج مكتبه، ألقى نظرة على غلافها الأخضر خضرة باهتة، بقع الدم تبدو أكثر لمعانًا. قرَّر ألَّا يكتب هذه القصة مطلقًا، أن تظل سرّه الأعظم.
* اللوحة… للتشكيلي السوري خالد خاني

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.3 / 5. Total : 3

كن أول من يقيم هذا المقال