‫الرئيسية‬ ثقافة حكايةُ آحادٍ مطيرة
ثقافة - سرد - 29 يناير 2023, 15:50

حكايةُ آحادٍ مطيرة

د أنس مصطفى

مصطفى سند شاعر بارز ومن كبار شعراء جيله في السودان والعالم العربي مع تلك النجوم الضوَّاية؛ محمد عبد الحي، محمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبَّكر؛ لسند معجمه الخاص، وصوته الأصيل، وهو شاعرٌ منغوم، حيث لنصِّه موسيقى مُنثالة، عذبةٌ وجاذبة؛ أنا أستخدم هنا كلمة (منغوم) متعمداً لأنَّ مصطفى سند يحب استخدام صيغة اسم المفعول هذه وله فيه منحوتات لغوية فاتنة، تجده يقول على سبيل المثال: “أنا من وثاقِ العُرفِ محلول الشَّراع”، “وأنا الذي حرق الحشاشة في هواكِ ممزَّقُ الأضلاعِ مطلول النَّزيف”، “تتساقطُ الأمطارُ فوق جبيني المثلوج”، وهكذا.

ولمصطفى أيضاً طريقة فريدة في نحت الصفات بصيغ لا تُطرق كثيراً لكنها تنسجم مع جرس أشعاره: “تبكي عروق الطنضب المحروق والتيك العِطاش”، ” تهرسهُ النياقُ الحمرُ ترفدُ نبعهُ الحقبُ الطوال”، وقف المكوك يقلبون بريده المجنون أتربةً وأحجاراً ثِقَال”، “فتهبُّ كلُّ زوابع الأحقادِ تغسلُ ملحقاتِ البيتِ، تربضُ في مداخله الفِساح”، “بيتُ شاعرٍ تقوّضت جدرانه العِتاق”، مثلما يشتغل بمهارة على منوال الإضافة “واجمع خيولكَ جامحات الطرد”، “سأظلُّ أركبُ جامحات الوعرِ”، “يعلو جدارك سافياتُ الرِّيح” ، أيضاً قلَّما تجدُ نصّاً في كتابه (البحر القديم) على الأقل خالياً من الأمطار والسُّحب والرِّياح:

“سكنَ السَّحابُ ومرَّ طيفُكِ من جديد،
نثرتهُ كفَّ البرقِ حينَ تلاحقَ الإيماضُ
وانعتقت شرارات الرُّعود”.

وسند يكتب نصوصه بلغة رفيعة، لا نشاز فيها ولا كلمات وعرة، لغة تناسب موسيقاه الأخّاذة، ستجد كلمات وتعابير من قبيل الأراجيح، المراكض، المسرجات، “من أيِّ سكَّتين تنهضُ الرِّياحُ في يديك، مسرجاتُ صندلٍ وعطرُ شمعدان” ، “إن يبدعُ المساء بسط خزِّه فمن شرابكم تألَّقت عيونه الوضاء”، “رأيتُ فورةَ الدِّماءِ فوق صدرها الصبيّ”، كما أن معاجمه تتبسَّط أحياناً مقتربة من لغة الأغنيات المألوفة عبر صوغ بديع:
” أنا المحرومُ من دنياكِ لمَّا غامت الرؤيا
ولفتني المتاهاتُ”

“لعلَّك يا عذاب اللَّيلِ كنت تزورنا كرهاً
وترحلُ قبل أن تأتي”

من نصوصِ (البحر القديم) الجميلة نصُّ مقاطعٍ استوائيَّة بالإضافة إلى النص سيِّدِ الاسم (البحر القديم)؛ نص (مقاطعٍ استوائية) هو حكاية، أو مشاهد سينمائية سريعة ليومٍ من الآحاد الصبيَّة، يستخدم فيه سند تقنيات التقديم والتأخير (الفلاش باك) في المقاطع، بحيث يبدأ من نهاية الحكاية ثم يعود إلى البداية ثم المنتصف وهكذا؛ تُموَّه المعاني بالتكثيف الشديد، وبانتقاء المفردات وبعلو الموسيقى بحيث تبدو الموسيقى هي الواجهة بينما الكلمات خلفيَّتها، مثلما يحدث في أغنيات عثمان حسين، ويُترك لك خيار أن تأخذك الموسيقى بتيارها الجارف أو أن تمسك بالمعاني الطيفية.

تبدأ الحكاية في (مقاطع استوائية) من مشهد الختام، حيث يروي الشاعر مكذِّباً ما يتداوله الناس حول بحور هناءاته:

“في البدء قالَ الواهمون
يا للسعادة بيتُ صاحبنا القرنفل
قاعُ منزلهِ البُهار وسقفهُ الغيمُ الحنونْ،
يا حظهُ التهمَ الصُّدورَ
مراكِضُ الزَّلَقِ المريحِ وعبَّ أنهارَ العيون”
ثم بعد ذلك، يعود بك الشاعر إلى مشهد البداية، حيث ترقُّبُ الوصول، وصول سيدة النساء في ذلك اليوم الماطر:
“يا صندلَ اللَّيلِ المُضاءْ،
افرد قميصَ الشَّوقِ حين تطلُّ سيدةُ النساءْ،
فالمجدُ جاءْ،
وتناثرَ الأحدُ الصبيُّ يهزُّ أعمدةَ الغناء”
ثم وفي ختام هذا المقطع يتركك النصُّ مشدوهاً مع هذين السطرين الشعريين”
“لو زندها احتملَ النَّدى لكسوت زندكَ ما تشاء
ثوباً من العشبِ الطريِّ وإبرتينِ من العبيرِ وخيط ماء”
لكن هل احتملَ زَندها النَّدى؟،
لن تحصل على إجابة من الشاعر، ربَّما تتأول الإجابة، أو ترجع إلى المشهد الأول حول تكذيبه لكلامِ الواهمين؛ في الحقيقة لن تكتمل صورة المقطع الثاني من النص إلا عبر قراءة المقطع الثالث:
” بلُّورُ ضرعك يا عصير الرِّيح سالَ على
النَّوافذِ والزُّجاج
مطراً كدمعِ الشَّمع يغسلُ مدخلَ الكوخِ القديمِ من السِّياج إلى السِّياج
قلبي تعلَّق بالرِّتاجْ،
أتدقُّ؟ لحظة قربها حانت، شراييني ارتوت قلقاً
وكدتُ من الهياج،
أهوي أمزِّقُ زركشات ستائري الجذلى
وأعصفُ بالسِّراج”
هنا تصلُ إلى قلب النص، إلى النَّولِ الذي يحيكُ خيوط المشاهدِ من حوله، هنا في هذا الانتظار المشوب بالشَّك؛ هل ستأتي تلك المنتظرة رغم هذا المطر؟ أو وفق الصوغ الشعري الباهي “لو زندها احتمل النَّدى لكسوت زندكَ ما تشاء”، لكن (لو) هنا أهي من باب التمنِّي أم الحسرة؟، لو أنها جاءت أو لو أنها ستجيئ لغُمِر الشاعرُ بما اشتهى من العطورِ والرَّواء، الشاعر الذي ما زال يأملُ في اللقاء، يطمئنُ شكوكه على لسان سراجِ بيته بأنَّ هذا محضُ مطرٌ خفيف ستقوى عليه:

” أهوي أمزِّقُ زركشات ستائري الجذلى
وأعصفُ بالسِّراج،
الساخر المجنون يرمقني ويضحك في ارتعاش
هذا الرَّشاش،
ما صدَّ جنح يراعةٍ تلهو وما حبسَ الفَرَاش
أيعوقُ مقدمها النسيمُ وهذهِ السُّحبُ العطاش”؟

هذه أسئلة قد تجيب عليها الحكايا، لكن لا تجيب عليها الأشعار، فالقصيدة تمضي بذات المواربة وتشابك المشاهد وانسكاب الموسيقى، لكن ما تبقى منها يتبدَّى مشجوناً:
“ألملمُ الحاكي وأرفعُ زورقَ التُّحفِ القديمة
والرِّياش
ليخرَّ صرح مباهجي الواهي ليحترق الفراش”
..
ما يمكن الختام به ما كتبه صلاح أحمد إبراهيم في مقدمة (البحر القديم)، أن “خير الشعر ما أثرى العقل والوجدان وجعلنا بقراءته أكثر إنسانية وحكمة ورهافة شعور وإحساساً بالجمال” وهذا ما قام به مصطفى سند عليه رحمة الله.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال