‫الرئيسية‬ ثقافة فنون “عبد الكريم الكابلي”.. تواشيح تبقى!! (1)
فنون - مقالات - 26 سبتمبر 2022, 9:25

“عبد الكريم الكابلي”.. تواشيح تبقى!! (1)


مهدي يوسف إبراهيم
……………
توطئةٌ أولى:
” الجانبُ الإبداعي جانبٌ مهمٌ لأبعد الحدود، وما ذلك إلَّا لأن الفن يخاطبُ وُجدان الإنسان، ويستمد الفن قيمته من قدرته على الاقناع من خلال التأثير ”
” عبدُ الكريم الكابلي ”

توطئةٌ ثانية
“ومنذ أن تفتَّحت مداركي على هذه الحياة، أدركت عميقاً أنَّ الفن الخيّر كان وراء تطوُّر البشرية”
“عبدُ الكريم الكابلي”
…………………..
توطئةٌ ثالثة
أشتاقُ لقاءك يا ربي في لهفة صوفيٍ ولهان
روحي لسمائك تسبقُني أما قيدي و الجسمُ الفان
سيعودُ زهوراً و وروداً في تُربك مرسمِك الألوان
“عبدُ الكريم الكابلي”
…………….
ما بين ميلاده في العام 1932 في مدينةٍ تستقبلُ الشمس أولاً قبل أن توزعها على بقية السودان، ثم موته في بلاد العام سام في ديسمبر للعام 2021، استطاع الفنان السوداني، الأفريقي، العربي العظيم “عبد الكريم الكابلي” أن يملأَ الدنيا غناءً وتلحيناً ومحاضراتٍ باحثةٍ متأملةٍ في التراث السوداني الواسع وكتاباتٍ ترصدُ أهمية الفنون عموماً وحياة مؤلفها تحديداً. وصفتُ الكابلي بصفتي”الأفريقي العربي” لأنه واحدٌ من فنانين سودانيين قلة وصلت أغنياتُهم إلى شتى فّجاج أفريقيا، وإلى مدنٍ عربية لا يزال ينكرُ علينا بعضُها عروبة اللسان وفصاحته، دون أن نغفلَ عالمية الرجل إذ قرعت خيولُ أغنياته أبواب مدنٍ تموتُ من البرد حيتانها. كما وسمتُه عامداً بصفة السوداني لأنه كان يؤمن أننا  – وببساطةٍ ودونما فذلكة – سودانيون، نقعُ في أفريقيا لكننا لسنا أفارقة، ونتحدثُ اللغة العربية بطلاقةٍ ولكننا لسنا عرباً…لكن تلك قصة أخرى كما يقول “محيميد” …

اسمُه “عبد الكريم عبد العزيز بن محمد بن عبد الكريم بن يوسف بن عبد الرحمن”، وتعودُ جذور والده إلى “كابل” في أفغانستان ومن هنا جاءت كنيةُ “الكابلي”، أما أمه فهي ابنة “الشريف أحمد محمد نور زرّوق”، وكان يقيمُ في منطقة “القلابات”. كما أسلفتُ، وُلد الكابلي في مدينة بورتسودان في العام 1932 و هو عام خطيرٌ في حركة الفنون في السودان، إذ شهِد رحيل العبقري “خليل فرح أفندي”، مثلما شهد مقدم “الكابلي” و”وردى” تعويضين سماويين باذخي الجمال. وُلد “الكابلي” في بيتٍ كان فيه الكتاب فرداً مهماً في الأسرة. كان والدُه رجلاً قرئةً ينظّمُ في بيته صالوناً أدبياً عظيماً ارتاده حتى “المحجوب”، كما كان يتمتعُ بصوتٍ وسيمٍ وبقدرةٍ عاليةٍ على عزف العود. أنفق “الكابلي” طفولته ودراسته الأولية في “بورتسودان” حيث برز في الإلقاء الشعري وحيث تفتحت أزاهيرُ موهبته الغنائية التي قٌدّر للأستاذ الراحل “ضرار صالح ضرار” أن يكون مكتشفها الأول. درس “الكابلي” القرآن الكريم في خلوةٍ كان يمتلكُها خالُه في “القضارف”، ودرج على قضاء إجازته المدرسية في سرايا جده في مدينة “سواكن”. ويمكننا حين نتأمل حياة “الكابلي” الباكرة أن نتوقف بهدوءٍ عند صالون والده الأدبي وشغفه –الكابلي الابن -بالقراءة وحفظه للقصائد ثم ارتياده للخلوة لندرك سر إجادته للتغني بجياد القصائد العربية الفصحى، كما يمكننا الوقوف كذلك عند حقيقة أنه ورث عن أبيه الصوت الجميل وشغف الغناء والتعاطي معه كنشاطٍ إنساني راقٍ. ثمة حقيقة أخرى تسترعي الانتباه وهي علاقة ” الكابلي” بالبحر في كل من “بورتسودان” و”سواكن” وما لعبه هذا الكائن العملاق الغامض في تشكيل خياله الشاعر المتأمل. بالإضافة لكل ما ذكر من نقاط مستفزة للموهبة الفطرية تأثر “الكابلي” في طفولته بأغاني قبيلة “الهدندوة” وبالأغاني المصرية التي كان يستمع إليها في السوق. تنقّل “الكابلي” بين “القضارف” و”القلابات” و “طوكر” و”دوكة” و”كسلا” و”الجزيرة”. هذا الترحّل في شرق السودان، ثم إلى “الخرطوم” و”مروي” فيما بعد، فتح نوافذ وعيه على قضية التراث وأهميته وهو ملمحٌ جوهريٌ في مشروعه كما سأبينُ لاحقاً.
ثمة عاملٌ آخر لابد من الإشارة إليه في حياة “الكابلي” الباكرة وهو صداقته المتينة بالشاعر العظيم “حسين بازرعة”. كان الصديقان العظيمان يحرصان على تبادل الكتب، والجلوس قرب شاطئ البحر الأحمر للحديث عنها، وارتكاب الثرثرة البريئة. وقد أثرت هذه الصداقة في حياة كليهما بصورةٍ سافرة.
بعد شرق “السودان” حطّت خيولُ الكابلي في مدينة “الخرطوم”، فالتحق بمدرسة “التجارة الثانوية الصغرى” في مدينة “أمدرمان” (كانت المدرسة مشهورةً باسم مدرسة الساعة)، وحين تخرّج فيها التحق بالعمل في مصلحة القضاء. في العاصمة برع “الكابلي” في عزف العود وبدأ في التغنِّي ضمن دوائر الأصدقاء المقربين، مترنِّماً بأغنيات الأساتذة “حسن عطية” و”عثمان حسين” و”الكاشف” وغيرهم. في تلك الفترة كتب “الكابلي” ولحّن أغنية “زاهية” ثم قدّمها إلى الكبير “عبد العزيز محمد داؤود”:
يا زاهية قلبي الشلتي جيبي
يا زاهية عبثك بي لو سبتى
لم يشأ “الكابلي” الظهور وقتئذٍ بسبب نظرة المجتمع المتخلفة للفنانين وقتها، ومما زاد من حساسية موقفه أنه كان يعمل في القضائية. كما ذكر “الكابلي” في لقاء تلفزيوني أجرته معه قناة “الغد العربي” أنه أيضاً لم يكن يثق في ملكاته اللحنية وقتها بالصورة التي تجعله يفكرُ في دخول الوسط الفني علناً.
ذكر “الكابلي” في واحدة من لقاءاته الصحفية أنه كان يودُّ أن يدرس القانون لكن إيقاع الحياة اللَّاهث في “الخرطوم” لم يمكنه من ذلك، ولذا طالب بنقله إلى منطقةٍ هادئةٍ تمكنُه من التفرغ للدراسة، فأشار عليه بعض النفر المقربين بالذهاب إلى مدينة “مروي”. هناك تعرّف “الكابلي” على لفيفٍ من القضاة والإداريين والمغنيين والشعراء والأعيان. وهناك كتب أوبريت “مروي” الشهير في أواخر الخمسينيات وأدخل فيه شيئاً من الروح الموسيقي للمنطقة مثل مقطع ” بوبا عليك تقيل”. كما لحّن رائعة “شذى زهر” التي قدّمها إليه “إبراهيم يوسف” شقيق المذيع “أبو عاقلة يوسف”. التفت “الكابلي” إلى تراث المنطقة الغني، كما خالط عدداً من المثقفين الكبار مثل الشاعر “مهدي فرح” الذي قدّم للكابلي أغنية “حليلكم” ليقوم الأخير بتلحينها وتقديمها للكبير “إبراهيم عوض”:
يا حليلكم يا حليلك انت براك
كيف نذكرك ما دمنا ما بننساك
بعد عودته من “مروي” في العام 1958 التحق “الكابلي” بلجنة الألحان والنصوص في الإذاعة السودانية وكان يرأسُها المذيعُ العظيم “أبو عاقلة يوسف”. هناك التقى “الكابلي” بلفيفٍ من الأدباء الكبار مثل “محمد المهدي المجذوب” و”مصطفى سند” وغيرهما. وهنا لا بد من الإشارةٍ إلى شيء مهمٍ في حياة الكابلي – وفي حياة كل مبدعٍ جاد -وهو حرصُه على أن يحيطَ نفسه ببطانةٍ مثقفةٍ تكونُ له بمثابة حاضنةٍ مبدعة.
حين كتبَ “تاج السر الحسن” قصيدة “آسيا وافريقيا” احتفاءً بميلاد حركة عدم الانحياز وانعقاد مؤتمر باندونق بإندونيسيا قام “الكابلي” بوضع اللحنِ للقصيدة وبحث عمَّن يتغنّى بها. لكنَّ وفداً من وزارة الإعلام (وكانت تُسمّى حينها وزارة الإرشاد القومي) أقنعه أن يتغنَّى بها بنفسه أمام الزعيم عبد الناصر الذي زار السودان في العام 1960، سيما وأن “الكابلي” كان وقتها شديد الاعجاب بالزعيم المصري. وبالفعل صعد “الكابلي” خشبة المسرح القومي بأمدرمان وصدح:
عندما أعزفُ يا قلبي الأناشيد القديمة
ويطلُ الفجرُ في قلبي على أجنحِ غيمة
سأغني آخر المقطعِ للأرضِ الحميمة
للظلال الزرق في غابات كينيا والملايو
لرفاقي في البلادِ الآسيوية
للملايو ولبنادونق الفتية
منح لحنُ هذه الأغنية “الكابلي” ثقةً في نفسه. أيضا كان نصُ الأغنية الشعري جديداً ومختلفاً عمَّا كان سائداً آنذاك. الجديرُ بالذكر أنَّ “الكابلي” كان قد كتبَ قبلها قصيدة عن “عبد الناصر”:
أقبل الصباحُ مشرقاً وزاهر
يعلنُ الكفاح جندُه مزامر
حدّث البطاح عن زعيمٍ زائر
عزمُه رياح ملهمٌ وثائر
أسمرُ الوشاح واسمه ناصر
دخل “الكابلي” إذن الى حديقةٍ الغناء من البوّابة الكبيرة. بعدها استضافه الإذاعي الكبير “أحمد الزبير” في برنامجه الذائع الصيت “أشكال وألوان”، وفيه تغنّى بأوبريت “مروي” مع أغنياتٍ أخر. بعد ذلك قدّم من كلماته وألحانه أغنية “فتاة اليوم والغد”:
أي صوتٍ زار بالأمس خيالي
طاف بالقلب وغنّى للكمال
وأذاع الطهرَ في دنيا الجمال
وأشاع النور في جوف الليالي
وهي أغنيةٌ مهمةٌ كونها من أوائل الأغنيات التي تغنّت ببعض حقوق المرأة. أعقبت هذه الأغنية أغنيات خفيفة مثل: “أمير” و”سُكَّر ” و”الكل يوم معانا” و”زينة وعاجبانى”. في الستينيات قدَّم “الكابلي” –وللمرة الأولى -ندوةً عن التراث. وقد شكّلت هذه الندوة بداية تعاطيه الجاد لقضية التراث. كما شهدت فترة الستينيات تغنيه بنصوصٍ فصيحةٍ أخرى، فقدّم إلياذته الكبرى “ضنين الوعد” في العام 1964، وهي من كلمات “صديق مدثر”:
يا ضنين الوعد أهديتُك حبِّي
من فؤاد يبعث الحب نديَّا
إن يكن حسنك مجهول المدى
فخيال الشِّعر يرتاد الثُّريَّا
وهي القصيدة التي استفزَّت “وردي” فظل يلحّ على “صدّيق مدثر” كي يمده بنصٍ فصيح حتى وضعَ يده على أغنية “الحبيب العائد”. بعد “ضنين الوعد” تغنّى الكابلي برائعته الكبيرةِ “إني أعتذر” للكبير “الحسين الحسن”:
حبيبة عمري تفشى الخبر
وذاع وعمّ القرى والحضر
وكنتُ أقمتُ عليه الحصون
وخبأتُه من فضول البشر ليتواصل بعدها تدفُّق نهر “الكابلي” العظيم.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال